Saturday, March 28, 2009

مرة أخري (وليست أخيرة) -عن مظالم الأقباط أكتب


طارق حجى - الحوار المتمدن
ضربُ من السخف أن يحسم البعض الحديث والحوار عما يتعرض له الأقباط في مصر من عنتٍ وظلمٍ وعدوانٍ وتهديدٍ بأن النظام السياسي والحكومة لا يمارسان أي إضطهاد ضد الأقباط . فأنا كمراقب للشأن القبطي وكدارس للمسيحية وتاريخها في مصر ولوضعية الأقباط في المجتمع المصري خلال القرنين الأخيرين وحتى هذه اللحظة أكاد أُجزم بأن إضطهاد الأقباط ليس سياسة للنظام أو للحكومة . ولكن ذلك لا ينفي وجود المشكلة بل ولا ينفي وجود جزء على ألفٍ من حجمها المهول . صحيح أن الحكومة ليس لديها سياسة لإضطهاد الأقباط . ولكن ذلك لا ينفي أن الأقباط يتعرضون
(ومنذ فترة طويلة كانت أحداث الخانكة سنة 1972 هي نقطة ولحظة التصاعد المتوالي لها) للكثيرِ من المشكلات والمعضلات والأجواء الخانقة والملاحقة في كثيرٍ من المواقف والأمر يحتاج لقليل من التفصيل : فرغم إعتقادي بأن الحكومة ليست صاحبة سياسة محددة المعالم وملزمة لجهات إدارية معينة ضد الأقباط فإنني أجزم بأنه ليس لديها سياسة للتصدي لمناخ العداء للأقباط والمُتفشي في قطاعات واسعة من المجتمع . إن ساحة الحكومة لا تكون مبرئة من المسئولية لمجرد أنها لم تتسبب في كارثة . فقد تكون الحكومة مسئولة بنفس الدرجة لأنها لم تقم بما من شأنهِ حل المشكلة وإزالة أسباب الضغوط التي يعاني منها أقباط مصرَ . إن المناخَ العام في مصرَ ومنذ تصاعد المد الديني على مراحلٍ في سنوات 1948 و1967 و1972 مع ما صاحب تلك المحطات من إنهيارٍ لمؤسسة الإسلام المصري المعتدل والسمح وحلول رقائق عديدة من الإسلام الوهابي المتوحش والمُتسم بكل سمات بيئة البداوة التي جاء منها قد أنتج (أي هذا المناخ العام) بيئة حاشدة بالمواقف المُتعصبة ضد الأقباط والتي تُتَرجَم في شكل مصاعبٍ يومية لا نهاية لأشكالها وصورها . ولا شك عندي أن الحكومة لم تتصد لمواجهة هذه المشكلة العويصة لعدةِ أسباب . وأهم هذه الأسباب هى : أولاً : إنعدام الرؤية أو ضعفها . فالمشكلة تُرى على المستوى السياسي والإداري في حجمٍ أصغر بكثير من حجمها الحقيقي وهو ما ينتج عنه عدم توفر إرادة سياسية للتصدي للمشكلة . ثانياً : أن ريح الوهابية التي ضربت مصر منذ بدايةِ فترة رئاسة الرئيس الراحل محمد أنور السادات لم تضرب قطاعاتٍ من المجتمع وتترك غيرها , فقد ضربت تلك الريح السامة كل قطاعات المجتمع بما في ذلك بعض الذين كان من الواجب أن يقوموا بالتصدي لهذه المشكلة . ثالثاً : أن التدهور الذي حدث في المؤسسة الدينية المصرية أمام رياح السموم الوهابية وسطوة البترودولار الوهابي قد جعل هذه المؤسسة تنتج رموزاً هم أقرب إلى نموذج محمد بن عبد الوهاب (مؤسس الوهابية) من مضاهاتها لنموذج الشيخ مصطفى باشا عبد الرازق وزير الأوقاف السربوني وأستاذ الفلسفة (وأني لوهابي جلف كأجلاف هيئة الأمر بالمعروف فى مملكة كثبان الرمال والنوق؛ يعجز عن قراءة فقرة واحدة في كتابٍ لأرسطو أن يري ويفهم الحياة والأفكار كما كان يراها ويفهمها شيخٍ للأزهر درس الفلسفة في السربون وقام بتدريسها في قسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول منذ أكثر من ستين سنة ... شيخ للأزهركان يترنم بأشعار لامارتين وبودلير ورامبو ؟) . بل إن المؤسسة الدينية المصرية المعاصرة تنتج اليوم من النماذج ما يقوم - ليل نهار - بصب الزيت على النار . وكتاب أحد هؤلاء عن الأقباط منذُ شهورٍ قليلة (وهو الكتاب الذي سحبه الأزهر من الأسواق) أكبر دليلٍ على إفراز المؤسسة الدينية في مصر لرموزٍ وهابية لا يُمكن أن تقبل بالمُساواةِ الكاملة بين القبطي والمُسلم كما أنها لا يُمكن أن تقبل بالمُساواة الكاملة بين المرأةِ والرجُل . وعندما يكتُب إنسانُ مثلي (منذُ عشر سنوات) أن الأقباط هم أصحاب هذا الوطن الأصليون ، فإن العديد من هذه الرموز الوهابية تُلقيه بالحجارة (حجارة غلمان المعرفة وصبيان الثقافة) ، رغم أنني لم أقُل أن المصريين المُسلمين ليسوا أيضاً من الأصحاب الأصليين لهذا الوطن . رابعاً : إن العلاقات السياسية الخاصة بين مصرَ ودولة عربية تمول عملية إنتشار وشيوع وذيوع التفسيرالمُستقى من أحمد بن حنبل وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية ووصولاً إلى إبن باز مُفتي السعودية الأخرق الذى نفق منذ بضع سنين قد حالت دون تصدي الحكومة بشكل كامل لشيوع الوهابية في مصر ، ناهيك عن عدمِ فهم أعدادٍ من رجالها لهذه الظاهرة المهلكة للوسطية المصرية التي أنتجت الإسلام المصري الذي لا يمكن مقارنة الإسلام الوهابي المتوحش الآتي من رحم صحراء البداوة به. فذلك الإسلام المصري (الذى تبخر جله) هو كيان ثقافي تقف وراءه رقائق (بالمئات) من الحضارة والمدنية عمرها أربعة آلاف سنة سابقة لدخول الإسلام لمصر سنة 641 ميلادية . خامساً : إن الحكومات المصرية خلال العقود الأخيرة كانت من باب المُجاملة للذهنية الوهابية التي تشيع في مُجتمعنا تحاول عدم التصدي للدفاع عن الأقباط ومحو ما يتعرضون له من ضغوط بينما يدلنا التاريخ السياسي على مر العصور أن خوف الحكم من وحش معين لا يؤدي إلا لزيادة قوتهِ فالوحوش تفهم جيداً منطقاً واحداً هو منطق القوة - ولكنني هنا أدعو لمنطق القوة في ظل الشرعية والقانون وليس لمنطق القوة غير المحكومة بقيد القانون . وعلى كثرة ما كتبت عن مُشكلات ومعاناة الأقباط في مصر ، فإنني لم أتناول في يوم من الأيام أحداثًا مثل أحداث الكُشح أو غيرها من الأزمات التي تحولت فيها الضغوط على الأقباط إلى عدوانٍ سافر على الأرواح والمُمتلكات . لماذا ؟ لأنني مُهتم ومُنشغل بالمرض وليس بالعرض . فكل تلك الأحداث المؤسفة هى أعراض لمرضٍ عُضال هو إنتشار ذهنيةٍ لا تقبل بأن القبطي هو شريك على قدم المساواة مع المُسلم في ملكيةِ هذا الوطن وفي كل شأن من شؤونه . وكما أسلفت فإنها نفس الذهنية التي تضع المرأة أيضاً في مكانةٍ أدنى أو أقل من مكانة الرجُل . وليس من باب المُصادفة أن الإنتخابات النيابية في مصر التي لم ينجح فيها قبطي واحد كانت هى أيضاً نفس الإنتخابات التي لم تنجح فيها إمرأة واحدة . فالمُشكلة التي نراها ليست مشكلة دينية ولكن ثقافية إذ أننا بصدد إناس خارج العصر وخارج الحضارة وخارج مسيرة التمدن بل إننا بصدد حفريات بشرية تريد أن تأخذنا عدة قرون للوراء وهى تتوهم أننا سنجد هناك جنة وفردوسا ، نحن نعلم من معرفتنا بالتاريخ أنها جنة وأنه فردوسٍ لم يسبق وجودهما على الأرض وإنما في وهم وخيال وحُلم بعض المرضى بالماضوية والذين ساقتهم لهذا المرض تكوينات ثقافية وسوسيو - إقتصادية نراها بوضوح كما يرى الإنسانُ الشمس في كبد السماء في يومٍ صيفي رائق .

No comments:

Post a Comment